الجمعة، 4 سبتمبر 2015

عاشق من إفريقيا



كنتُ عائداً للتوِّ من حزنٍ مضى ، ثمّ أتى غيرهُ ليرقد فينا إنّهُ الشاعر العربي الكبير محمّد الفيتوري العاشق الإفريقيّ الذي لا يشبهُ أحد سوى وطنهِ ، هو ذاتهُ الشاعر الضّالعِ في حبِّ افريقيا وعروبتهِ ، يا لهُ من موتٍ كاملٍ ، يا لهُ من غيابٍ قصيٍّ للروحِ ، لروحهِ سلاماً ولكلماتهِ أهلاً .
محمّد الفيتوري يا صاحب الكلمات المشحونة بالحياةِ والحب المنبثقة من أرضٍ خصبةٍ ومن سماءٍ ماطرة ، ترحلُ اليوم على إيقاع القصيدةِ الثكلى التي خسرت شاعرها بالأمس واليوم تخسرُ شاعرها ثانيةً ، ومرةً أخرى نودّعُ هذا الجمال الذي كان فينا أجمل ما فينا ، وداعاً يا محمّد أيُّها الشاعر الفارس / الأب الروحي لحداثة الشعر الجديد ، يا صوت افريقيا وعروبتها الأصيلة التي لا تشبه سوى أرضها وناسَها ولُغتها الحية ، أيُّها الحي فينا والمولود للتوِّ من رحمِ افريقيا والراحل دوماً إليها ، فما أجملكَ وأنت لا تحبُّ سوى وطنكَ الذي كُلّما ابتعد عنكَ اقترب منكَ في الشعر والحب ،تراهُ يدنو إليك ، فكيف تشبهُ غيرك ؟ المنافي لا تشبهُنا يا محمّد ، فدوّن وجع النّوى ، فأنت الذي أضأت القبيلة بمصابيح الشعر والوعي الحالم في سبيل حلمك ،
 ها أنت ترحلُ اليوم من هُنا واقفاً والسودان العزيز يودِّعك بتحيّةٍ معطّرةٍ من أرضِ أمّكَ وصوت أُمّك وزهور أمّكَ ، سلاماً عليك يا محمّد سلاماً على الأغاني التي صدحت في ثنايا النفس والتي سكنت فينا ، سلاماً على الكلمات والأحلامِ في قلوب قرّائها ، فهل نشكركَ على ما تركت فينا من جمال الروح صوب الروح والإنسان ، علمتنا درساً من دروس الأدب الذي نشتهيهِ في روائع شعرك ، هكذا أنت / نحن يا محمّد ، فكم أنت ما عدت أنت ، فأنت نحن ،  صوتنا وصورتنا وجرحنا .
بين الأبنودي والفيتوري تعبرُ عاصفة الموت المفاجىء إنّهُ القدر قدر الشعراء اللذين لا يمتلكون سوى سيف اللغة إصراراً على البقاء الجماليّ على ورق الشجر حين يأتي الربيع فتزهر الكلمات فينا وتينع أغصانها في فجرنا المنتظر ، يرحل الشعراء في فصل الربيع يرحلون بصمتٍ أسيرٍ وموجٍ خفيفٍ كالوزنِ والقافية،
لم يمت صوتهم تماماً ، لم يغب وهجهم تماماً إنّهم هُناك في ما ارتكبت أصابعهم من حبٍّ يافعٍ من أجل الحق والحقيقة ، " أغان من إفريقيا " و " عاشق من إفريقيا"  هما حدود إفريقيا بهندسة الشعر في نبض محمد الفيتوري الذي يضخُّ في افريقيا دم العربيّ النابضِ في عشقٍ سُرمديٍّ في الوطن الذي نحلم فيه كما شئنا أن يكون ، ونزرع فيهِ ما شئنا من أمنيات ، لم تمت الأمنيات فيك بعد يا محمّد ،  هي ما زالت ملأى بالحياة ، وملأى بالحضور مثلك لا يرحلون بصمتٍ بل بضجيجٍ يتركوهُ خلفهم ،بضجيجٍ شعريٍّ صارخٍ في فضاء البلاغة ، ترحلُ جسداً وترجعُ شعراً جديداً يكمل درب الحداثة الى ما بعدها ، لا تتركنا وترحل ... عُدْ إلينا في زمانٍ ما ، عدْ في قصيدةٍ أخرى ، ما زلنا بانتظارك هناك على رصيف اللغة وبحرها الواسع كالخيالِ الرحب  ،  في شعرك ما تبقى من غدِنا ، في شِعركَ ما أصاب الواقع من خدوشٍ وجروحٍ ، فلا تتركنا وترحل ... نصاب بالحنين إليك ، فكم نحتاجُكَ ؟؟ كي نصلح ما حلّ فينا من كسورٍ أو نكوصٍ في صميم واقعنا الذي كتبتهُ لنا ، هو واقعنا الذي لا يستطيع قراءتهُ سوى الشعراء أمثالك ، هم اللذين يبصرون أكثر في هذا الواقع المر ، وأنت تمضي الآن ... إنتظرنا قليلاً ريثما تشرق الشمس في بلادنا أكثر ،
 ريثما يستيقظ أطفالنا من نومٍ طويلٍ ، ريثما نعي ما هو الشعر أكثر وما معنى أن نكون للشعر مخلصين ، نعم. قد أخلصت للشعر أكثر منّا ، وأنصت أكثر إلى ذاتك الحيرى ، وسألت بصمتٍ ،  أين أنا ؟؟... سؤالك يجرح ... ولكن يحقُّ لك ما لا يحقُّ لغيرك ليس فقط لأنّك الشاعر ولكن لأنّك أيضاً انسان ، ما زالت أرضك أوسع وشعرك أجمل وروحك أطيب ، فتقدّم ... سنكمل بعدك أغاني البلاد ... ونملأ بالحب أرضك ونملأ بالزهر قبرك .
 إنتظرنا قليلاً على درب المدن التي عبرت إليها والمدن التي غنّيتُها وأهديتُها قصيدة ، إنتظرنا يا محمّد.
أيُّها المحارب الجميل في وجه القبيحِ فينا ، نودّعك الآن بعدما خسرناك شاعراً ومحارباً جميلاً في معارك الحياة ،
نودّعُك الآن ... نودّع التاريخ الشعريّ الذي أصقلتهُ التجربة ،  تألّمت كثيراً ، فكتبت لتشفى بدواءِ الشعر تشفى يا محمّد ،
نُداوي جِراح الرّحيلْ ،
بشعرٍ جديدٍ وعشقٍ كبيرٍ
فها أنت تمضي جميلاً جميلْ ،
سلاماً عليك سَلام الصّهيلْ .



باسل عبد العال
25/5/2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق