الجمعة، 4 سبتمبر 2015

دراسة بحثية عن العطر في الشعر العربي نشرت في مجلة بيت الشعر

تفوحُ من القصائد رائحة العطر حين تبدأُ العلاقة الحميمة بين الشعر والمكان أو حين نلاحظ هذا الترابط الجميل بين الشاعر وبين بيئتهِ ، حنينهُ وذكراه ، نلاحظ من هُنا طريقة استخدام الشاعر للعطر في شعره والتعامل معهُ كرمز شعري لهُ دلالاته ومعانيه وأصالته حيث تكمن فيه أصالة البلد والمكان والهوية ، أليس للمدن رائحة ؟ لدمشق رائحة الياسمين ، لبيروت رائحة القهوة والبحر ، لأبوظبي رائحة العود والحب والدفء ، من هنا يؤدي الشعر دورهُ في التصوير اللغوي في حضرة العطر ، إذ نلاحظ شعراؤنا في الإمارات والخليج وهم يبحون بسرّ هذا الجمال الساحر والمعطاء والملهم لهم في آن.
نذكر هنا مقطع من قصيدة "  أحبك زود "  للشاعر الاماراتي مانع سعيد العتيبة يقول فيها :
نسايمك العليله عطر هبّت      اوحسّيت بمسره وسعاده

سقى الله دار للمحبوب ربّت       مثل ماهو سقاني من وداده

هشيم القلب بالريحان نبّت           اودعاكم لوتكرمتوا لحصاده

هذه النسائم العليلة التي هبّت أي فاحت وباحت في منظور الشاعر وإحساسهُ فيها وما يدور في خاطره من سعادة أو حب منتظر يبشر بقدوم المحبوب إليه ، أليس العطر هو الذي يسبق الشخص الآتي ؟ فكيف إذا كان المحبوب هو ما ننتظره بفارغ الصبر ؟ والقلب الذي كان هشيماً فأصبحت أرضهُ خصبة ينبتُ فيها الريحان ، فيدعو الشاعر هنا بالكرم والحصاد بعد ما أينع الريحان وفاح عطرهُ ملء المكان ، هكذا ارتبط الحب بالعطر وعشش في هاجس الشاعر العاشق الباحث عن شفاء للقلب ، لعلهُ يكون دواءهُ بالعطر.
والعطر أيضاً ذاكرة ترجعنا إلى دفء المكان الأول وربما إلى الوردة الأولى التي منها يولد العطر ، وقد ذكر الشعراء كثيراً هذه الروحانية التي تستمد جمالها وسحرها من الطبيعة بما تحتويه من شجرٍ وثمرٍ وزهرِ وعطور على مختلف أنواعها ورمزيّتها المختلفة التركيب والتشبيه في المفردة الشعرية ، مثلاً عند الشاعر الإمارتي محمد عبد الله البريكي نرى العطر بصورةٍ أخرى : من قصيدة  «ستنتهي الحرب»  يقولُ فيها :
أنا النواسيُّ علَّقتُ النجومَ على                         
زجاجةِ الكشفِ حتى اسّاقطت ثمرةْ
أدمنتُ كأسَ الأغاني كيْ أُعَلِّمَهُ                          
أنَّ الأحاسيسَ أنثى في الهوى سَكِرَةْ
وأنها حين مادت أمطرت وجعا                         
وحولت ثديها في أحرفي مطرة
لذا أفضّلُ أن يبقى على لغتي                               
وردٌ إذا مسَّ روحاً أصبحت عطِرَة
في البيت الأخير نلاحظ  استخدام الورد الذي إذا مسّه الروح فأصبح عطراً كما يفضّل الشاعر أن تكون لغتهُ نابضة كالروح ومزهرة بالعطر لأنهُ يرمز هُنا إلى الروح الحي الذي ينبع بالحياة لتبقى اللغة على قيد العطاء والتنفس المستمر ، ونحن نسأل ماذا لو لم يمسّ الورد الروح ؟ هل سيصبح مصيرها الموت أم حالة فقد بلا رائحة ولا عطر يفوح ؟ إذن ، هنا يكمن المعنى في هذا التركيب الجميل للبيت الشعري ، وفي الأبيات السابقة أيضا حافظ الشاعر على الترابط في المعنى أيضاً مثلاً : ثمرة ،  سكرة ،  مطرة ،  عطرة ، ليس فقط بقافية " التاء المربوطة"  بل أيضا بالطبيعة وهو لم يبتعد عن المعنى والمبتغى وعن العلاقة الشعرية بينهما ، وأيضاً مثل : الأنثى " وهي لها علاقة بالعطر أيضاً"  وذكر " الأحاسيس"  كذلك الأمر " ثديها "، "زجاجة " ، " الهوى"  وهو ما زال الأقرب إلى معنى العطر حتى آخر البيت.
وعند الشاعر نفسه في قصيدة أخرى أيضاً " بالعامية" وتحمل عنوان : " غرشة عطر " يصف العطر بطريقته الخاصة وبرؤيته الشعرية ، نذكر بعض الأبيات منها :
تعرْف انك إذا مريتني نبضي يصير قنـــاد 
واذا ما حرّكت أطراف ثوبك ذبت بثيابـــي
واذا عديت عن نبضي أغني للشقـا أبعــاد
واغنّي لك شبيه الريح والقى الريـح باهدابي
تعال ارمي على صدري عتاب الذنـب للجلاد
ولك مني وعد صادق أليـّـن قلبه افبابــي

ويتميز الشعراء في اختيارهم وتراكيبهم الشعرية للعطر بمواضع ومشاهد شعرية أخرى ، فتارةً تأتي ملأى بالحب والإنتظار تناشد المعشوق وتحنُّ إليهِ بحنين الرائحة ، وتارةً أخرى مبشرة بالحياة تناشد الجمال والطبيعة وعظمة الخالق سبحانه ، أما عند الشاعر السعودي الدكتور غازي القصيبي الذي ذكر أيضا العطر بذوبانية شعرية طافحة :
تعالي دقائق نحلم فيها      بنافورة من رذاذ القمر
بأرجوحة علقت في النجوم      بأسطورة من حديث المطر
بكوخ على الغيم .. جدرانه     ظلال . وأبوابه من زهر
بخيمة عطر .. يعب الغروب     شذاها ويسكر فيها السحر

بهذه الشعرية الهادئة والرومنسية التي أضاءت على الحب بخيالٍ جامحٍ يأخذنا إلى زهو العشق وقداستهِ وسحريتهِ التي عطرها الشاعر بتشبيه قارورة العطر بالخيمة ويعب الغروب شذاها ويسكر فيها السحر كما ذكر الشاعر الحالم هو ومعشوقتهِ التي يناشدها أن تقترب إليه وأن يحلما معاً بأن يسكنا بخميةِ عطر تملأ أرجاء الغروب بشذاها ويسكرهم فيها السحر ليكتمل وهج الحب هنا في هذه الأبيات الحالمة المحلقة في معنى العطر الذي ظهر كأنه جزء لا يتجزء من هذا الحب الأسطوري في قلبهم وهم يدخلون في بوابةٍ من زهر إلى عالمٍ أكثر جمالاً وحباً وحياة.

ومن ناحيةٍ أخرى يطلُّ علينا الشاعر الاماراتي سيف المري بأنشودةٍ سلسةٍ وعابقةٍ برائحة العطر الذي ملأ أبياتها بسحرٍ خفيٍّ  يشبه النسيم على أوراق الشجر ، من قصيدة " سر السعادة " يقول فيها :
اعتلَّ بالنرجس النسيم       فراح في شوقه يهيمُ
نشوان بالعطر والأماني      لطيبه يبرأ السقيم
لومر يوما بجنب قبر        يحيا به عظمه الرميم
وللعصافير رجع لحن      يذيعه صوتها الرخيم
مبارك طلعُها هَضيم _  والظل تحت النخيل دان
فالطيب والماء والمغنّى      والحسن والملك والنعيم
يبدأ الشاعر قصيدتهُ بالزهرة " النرجس" حين اعتلّها النسيم ومرّ بها وهام بالشوق حتى أصيب بنشوة العطر وبالأمنيات فيه لكي يشفى من مرضهِ ، وهنا اتضحت رمزية العطر تماماً  كأنه الدواء الذي يشفي من السقم ربما من الأصالة والطيبة والرائحة التي بها تشتعل العواطف بالأمنيات فيمسك الشاعر بذكرياته خوفاً عليها من التلاشي في السقم والنسيان والفناء، ثم تعود العصافير إلى غنائها ويحتضن النخيل شاعرنا في ظلالهِ حيث الماء والغناء والنعيم وسر الحياة، وأيضاً جاء عنوان القصيدة " سر السعادة "  ليأكد أكثر على مضمون السعادة في رؤية شاعرنا وسر أسرارها التي ذكرها مفتتحاً قصيدتهُ بها كمصدر العطر الأول هي " الزهرة "  التي تصنع سعادتهُ الباحث عنها في القصيدة.
هكذا يمسي الفرح صنو العطر ورفيق درب شعرائنا وربما وسيلة للعبور إلى الإباء والنقاء والحلم الإنساني المحدّق نحو الطبيعة بما فيها من جمال ومن نعم الخالق سبحانهُ ، للمكان رائحة تختلف عن مكانٍ آخر لأن العطر هوية تحتاج منا الكثير من التشبث بجذورها للمحافظة على أصالتها كأصالة الشعر.

باسل عبد العال

10/06/2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق